كنت كبرى إخوتي الثلاث، ولكني كنت صغيرة عن إستيعاب ما وقع ساعتها من أحداث حين نظرت حولي لحظتها فإذا بأمي تغادر بيتنا والدموع تملؤ أعيننا، ونحن نتعلق بها.. صغارها الثلاثة اللذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والرابعة، حتى صراخ أخي الصغير وسنواته الأربع لم تفلح في بقائها، فقد أصرت على الخروج ولم يحاول أبي منعها.
كنت أشعر دائما أن بيتنا جحيما من المشاكل، لكني طالما إرتعدت من مجرد تلميح أمي أن تتركنا، حتى تصاعدت الأمور وطُلِقت أمي وسرعان ما تزوجت.
وبقينا مع أبي الذي لا أذكر أني رأيته يبتسم أبدا، وأخذت الحياة تمر بنا وهو يحاول أن يكفينا ما نحتاج في البيت وخارجه، لكن المسؤليات أخذت تقع على كاهلي الصغير يوما بعد يوم.
أحيانا كنا نذهب لرؤية أمي نتلمس عندها قطرات من الحنان، إلا أن المرض سرعان ما إشتد عليها وفارقت الحياة سريعا.
كنا نقطن بجوار عمة لنا وقد حاولت بكل طاقتها أن توالينا بالإهتمام، إلا أن أبي كان حريصا على أن يقصرنا عن الجميع، ويحملني أنا وأختي أعمالا كثيرة، ولم يكن لنا نصيب من اللعب واللهو إلا القليل.
وكبرنا شيئا فشيئا وكنت أرى محاولات من تلك العمة وآخرين من الأقارب بنصح أبي بالزواج بدافع الشفقة علينا، وتذكيره أن وجود زوجة له في البيت ستتحمل أعباءا كثيرة عنا، ولكنه لم يستمع لهم وأصر على الرفض.
وكلما مرت السنين كانت تترك في قلوبنا الصغيرة نوعا من التسخط، ولم نكن نُبدي به لأننا كنا دائما ما نرى والدنا عبوسا وكأنه يحمل همَّ الدنيا فكنا نخشاه وأحيانا نُشفق عليه.
وتزوجت أختي الصغيرة حين تقدم لها شخص وافق على كل شروط والدي المتعسفة، والتي كانت تزداد تعسفا كلما تقدم أحد للزواج مني، فلم يكن يقبل إلا أن أستمر في خدمته هو وأخي، حتى تخرج أخي وواجه أبي بكل إصرار على أن يتم زواجي حين تقدم لي أحدهم عن طريق معارف أخي ثم سارع بالسفر خارج البلاد.
وعندما إنتقلت إلى منزل الزوجية كانت المشاعر المتضاربة تكاد تفتك بي، فقد سعدت بزواجي وحياتي الجديدة ولكني كنت دائما في قلق على أبي، ويزداد قلقي كلما ذهبت لزيارته، حيث أجده حزينا صامتا، فأحاول أن أخفف عنه أنا وأختي وزوجينا ولكن حالته كانت تزداد سوءا حتى إن أخي في احدى أجازاته إقترح على والدي أن يلتحق بإحدى دور المسنين ليلقى الرعاية والعلاج على الوجه الصحيح، ورغم أنه لم يكد يبلغ الستين من عمره إلا أنه وافق على ذلك الإقتراح.
وكنت حريصة جدا على دوام زيارتي له، ومن العجب أن حالته تحسنت بصورة ملحوظة، فإذا به يبتسم لي كلما زرته، وأخذ يطيل الحديث معي، ويطرح الأسئلة لتفقد أحوالنا، ولاحظت إزدياد ترحيبه بزياراتي خاصة عندما كان ياتي أحد الرجال مصطحبا معه إبنته لزيارة شقيق له، والذي يقيم معه في الحجرة وكان يدور بينهم وبين أبي حيث كله ود وعرفني أبي بهم ولاحظت إهتمام أبي بتلك السيدة التي تأتي مع والدها لزيارة عمها، وعلمت أنها أرملة في نهاية العقد الرابع من عمرها، وحين بدا لي أنها تخص أبي بمعاملة خاصة تجرأت فهمست في أذنه: أبي لماذا لا تتزوج؟.
فأجابني وإبتسامة عريضة ترتسم على وجهه: لقد إتفقنا وسأعود بزوجتي إلى بيتي، فباركت له وهمست في داخلي سبحان من بيده مقاليد الأمور.
وشعرت حينها بأن ذلك القرار تأخر طويلا، فقد كان حق أبي أن يتزوج منذ أعوام كثيرة، وألا يكابد المسؤولية والحياة وحيدا، لقد كان خائفا علينا من زوجة الأب.. التي تشوهت صورتها كثيرا بالباطل في الإعلام والدراما، ولكن ما تعرضنا له كان قاسيا أيضا علينا وعليه.
كان بإمكانه أن يبحث عن امرأة حنونة عاقلة، وأن يكون يقظا لتعاملها معنا، وأن يوطد مع الوقت علاقتنا بها وينمي إرتباطنا المتبادل، فتكون لنا بديلا عن الأم التي حُرمنا وجودها، وتكون له أنيسا ورفيقا في درب الحياة.
ولكن كل شيء عند الله بمقدار.. فكان أوان أبي أن يضع عن عاتقيه الأحزان وهو على مشارف الستين.
الكاتب: تهاني الشروني.
المصدر: موقع رسالة المرأة.